المادة    
أما كيف نشأت هذه القوانين وتسربت إلى العالم الإسلامي فنقول:
  1. ظهور أول نموذج في العالم الإسلامي

    النموذج الوحيد الذي عرفه العالم الإسلامي من القوانين هو نموذج الياسق أو الياسا، الذي أتى به التتار، وشَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية تكلم في فتواه المشهورة عن التتار، وهو أكثر من فصّل في الياسق، وما هو حاله وشأنه وتاريخه.
    وكذلك المقريزي في كتاب الخطط عندما تكلم عن المماليك في مصر، وأنهم كانوا يتحاكمون إلى الياسق، قال: وهذا الياسق عبارة عن كتاب وضعه جنكيز خان.
    والحافظ ابن كثير رحمه الله ذكر ذلك باقتضاب في تفسير قول الله تبارك وتعالى: ((أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ))[المائدة:50] قال: مثل ما يتحاكم به التتار إلى كتابهم الذي يسمى الياسق، وجنكيز خان من أكبر الطواغيت في العصر الوسيط أو التاريخ الإسلامي، فقد جمع القبائل الهمجية من المغول في أواسط آسيا ثم اكتسح بهم والجانب الشرقي من العالم الإسلامي بلاد ما وراء النهر، وهي بلاد عظيمة فسيحة جداً، وكان في أيام الدولة الخوارزمية، وما كان أحد يأبه لهذه القبائل، واجتاحت هذه القبائل بعد حروب دامية الجانب الشرقي من العالم الإسلامي ودمرته، ثم أتوا على بلاد السند التي تسمى الآن باكستان، وبلاد خراسان وأفغانستان، وشمال إيران ثم بلاد فارس، ثم وصل حفيده هولاكو إلى بغداد عام (656هـ) التي كانت فيها وقعة التتار المشهورة في بغداد، وكانوا يعتقدون أنه إله، وأنه ابن الشمس، ولهذا شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية في رده عليهم يقول: ''هذه شمس، نزلت إلى الخيمة، ثم حملت به أمه ودخلت الخيمة'' كيف هذا؟!
    فهذا اعتراف منهم بأنهم لا يعرفون له أباً، فهو ابن غير شرعي -نعوذ بالله- والشاهد أن هذه العقيدة هي التي يعتقدها أكثر المجوس إلى الآن، حتى اليابانيون يعتقدون أن الامبراطور من سلالة الشمس، وهي نفس العقيدة القديمة الموجودة عند البوذيين المجوس في شرق آسيا.
    فقالوا إن هذا الرجل لما كان بهذه العظمة وبهذه المنـزلة جمع هذه القبائل ووضع لهم تشريعات وقوانين، وكتبها كما يقول المقريزي في ألواح من الفولاذ، وجعلها شرعاً في بنيه يحتكمون إليها، وهو أقرب إلى القوانين العسكرية المعروفة الآن.
    لكن كما يقول ابن كثير رحمه الله: ''اشتمل على بعض الأحكام من المجوسية واليهودية وبعض الأحكام اقتبسها من الشريعة الإسلامية، وأحكام أخرى وضعها من عنده فجمع وغيَّر وبَدَّل كما يشاء ((وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً))[النساء:82]''.
    ولما غزا هولاكو بغداد واجتاح التتار العالم الإسلامي، حصل أن بعض التتار أسلموا لكنه كان ضعيفاً كإسلام كثير ممن يعيش في دول الغرب ليس لهم من الدين إلا الاسم، وكانت قوة الإسلام متمركزة في بلاد الشام ومصر.
    وهنا تأتي فتوى شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله في التتار ذلك الحين، التي كان سببها كما ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية أن الناس اختلفوا في شأن التتار، فقال قوم: كيف نقاتلهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذه الشبهة القديمة الحديثة المتجددة، وقال قوم: يقاتلون قتال البغاة، وقال قوم: يقاتلون قتال الخوارج فاختلف الناس في أمرهم، وصارت ضجة ولم يحسم العلماء الموقف في شأنهم، فيقول الحافظ ابن كثير: فأصدر شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله فتواه في شأنهم، فاجتمعت عليها الكلمة، واتفقت عليها الأمة والحمد لله، وهو أنه قال: إنهم يحتكمون إلى الياسق الذي وضعه الطاغوت جنكيز خان فلم يحكموا بشرع الله، فهذا مما يبرر قتالهم قتال الخارجين على شريعة الله تعالى ودينه، فبناءً على ذلك وفق الله تعالى المسلمين كما يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله واجتمعت كلمتهم وخرجوا ومعهم شَيْخ الإِسْلامِ ابن تيمية رحمه الله، لقتال التتار صفاً واحداً، وكان شَيْخ الإِسْلامِ رحمه الله يقاتلهم ويبشر المسلمين بالنصر، حتى كسر الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شوكة التتار وخفض أمرهم وانتصر عليهم المسلمون.
  2. بداية دخول القوانين الوضعية

    وجاءت بعد ذلك الدولة العثمانية وظل الإسلام والشرع كما هو في كتب الفقه، حتى تدنت هذه الأمة في الحضارة، وانحطت في جميع المجالات، وظهر الغرب بقوة عصرية مادية تنظيمية، فحصلت الفتنة بالكفار وركوب سننهم وطرائقهم، والدخول فيما دخلوا فيه، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
    فقال المسلمون: لا بد أن نقتبس من الغرب هذه الحضارة، وظهر أعداد من الذين يسمون المستنيرين في مصر وتركيا، فظهر الشيخ رفاعة الطهطاوي وظهر خير الدين التوسي، وأما في تركيا فقد ظهرت على مستوى رئيس الوزراء وأمثاله، فكانت هناك دعوة إلى اقتباس هذه النظم المفيدة حسب زعمهم.
    وظهرت في تركيا الدعوة المسماة بالتنظيمات، وصدر قانون التنظيمات الأول لعام (1255هـ)، وقيل: إنه لا بد من الاقتباس من تنظيمات الأمم الراقية، واعتبار أن هذه القوانين قوانين راقية، وأنها جديرة بأن تقتبس.
    وكالعادة بدأت القوانين تحاصر الشريعة الإسلامية، فأول ما ابتدأت بالمعاملات والتنظيم العسكري، واستقدم خبراء من السويد وفرنسا لتنظيم الجيش العثماني ليكون من الجيوش الحديثة.
    وفي المجال التجاري كانت الدولة تتعامل مع أوروبا تجارياً، فأخذوا القوانين الفرنسية التجارية، وأخذوا نفس المواد، وغيروا فيها شيئاً ما حتى أصبح يسمى القانون العثماني التجاري، والتنظيمات الإدارية أخذوا بها عندما ظهرت فكرة البرلمانات والمجالس النيابية في أوروبا.
    وهكذا شيئاً فشيئاً حتى ظهر ما سموه الدستور عام (1908م) أيام السلطان عبد الحميد، ولما ظهر الدستور قالوا: الآن وصلنا إلى أن نكون أمة حديثة وأمة راقية متمدنة لها دستور تحتكم إليه، وتتعامل بمقتضاه، ويكفل حرية جميع المواطنين، ثم حدثت مشكلة الثورة على الدستور وإلغاء الدستور.
    فالمقصود أن العملية انتهت بإلغاء نظام الخلافة على يد كمال أتاتورك عام (1924م)، وانتهت بذلك كل الأحكام الشرعية تقريباً، وما بقي منها شيء في تركيا، ومسخوا الإسلام مسخاً كلياً، حتى أنهم ألغو الأذان وغيروه، فأصبح المؤذن لا يؤذن باللغة العربية، وألغو الحروف العربية، ومزقوا الحجاب، وفرضوا هذه القبعة الصليبية، وكل ما فيه تغريب فرضوه بالقوة، هذا في تركيا.
    وفي العالم الإسلامي بدأت المحاولات أيام سعيد باشا وحلمي باشا لتطوير البلاد، وأول ما وضع الدستور المصري عام (1923م)، وأعلن عند الناس وافتخرت مصر بأنها وضعت دستوراً، وأصبحت أمة حديثة تسير على القوانين الحديثة، والتحقت بركب الأمم الراقية التي هي في الحقيقة أمم غاوية، ثم توالت بعد ذلك الدول العربية والإسلامية بالأخذ بالقوانين حتى عمت هذه القوانين أكثر أنحاء العالم الإسلامي.
    وهناك دولة أخرى لا ينبغي أن ننساها وهي الهند فعندما جاء الإنجليز كانت الشريعة الإسلامية هي الأصل، وكان ملوك المغول الذين يحكمون الهند مسلمين، ومنهم أورنك زيب هذا الملك العالم وأمثاله.
    فقامت الحكومة الإنجليزية بإلغاء الشريعة الإسلامية، وأعطت الأفضلية لعباد البقر، وهم الأكثرية لأن المسلمين اشتغلوا ببناء تاج محل، وبناء القباب، وبناء المشاهد، واشتغلوا باللهو والطرب، بل وصل ببعضهم الأمر إلى الإلحاد، وتركوا الدعوة إلى الله، وظل عباد البقر، يعبدون البقر فجاء الإنجليز فطمسوا شريعة الله، وحكموا بين الناس القوانين الوضعية التي قبلها ورضيها عباد البقر.
    ولذلك نجد أن الهند وباكستان وبنجلادش التي هي باكستان الشرقية هي أكثر الأمم تقريباً في العالم تقليداً وتبعية للنظام الإنجليزي، فنفس الطريقة في الأحكام والبرلمان والانتخاب واختصاصات رئيس الدولة، واختصاصات رئيس الوزراء؛ لأنها مأخوذة حرفياً من الإنجليز، ومن أشهر القانونيين الذين وضعوا القوانين أو الدساتير في العالم العربي عبد الرزاق السنهوري، فقد وضع القانون المدني المصري، ثم انتدب لوضع قوانين في عدة بلاد عربية أخرى.
    وبذلك وصلت الأمة إلى الحالة التي ترونها اليوم من غياب حكم الله، والاحتكام إلى غير شرع الله في أكثر أنحاء العالم الإسلامي، وأخذ الناس يتحاكمون إلى الطاغوت الذي قال الله تبارك وتعالى فيه: ((أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً))[النساء:60] إلى آخر الآيات، فالتحاكم إلى الطاغوت هو السائد في العالم الإسلامي، وإن تعرضنا لشمال أفريقيا فإنها تعرضت كذلك لمسخ أكبر على يد فرنسا والله المستعان.